الاتفاقيات الدفاعية السرية بين باريس ومستعمراتها السابقة في إفريقيا.. الاستعمار الفرنسي الجديدي لدول القارة
بعد استقلال الدول الإفريقية التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي خلال القرن الماضي، وقعت باريس وعواصم تلك الدول اتفاقيات دفاعية واتفاقيات تعاون عسكري، بقيت سرية إلى حدّ كبير [كل وثيقة لها معايير تختلف عن الأخرى] واعتُبرت غالباً "ذراع فرنسا الإفريقية".
واليوم، بلغ عمر تلك الاتفاقيات تقريباً ستين عاماً وهي تنظم حتى الآن العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة على أسس أمنية ومالية وسياسية بامتياز.
في الماضي، سمحت تلك الاتفاقيات لباريس بالتدخل عسكرياً لإنقاذ حلفائها السياسيين ولكنّها في بعض الأحيان اختارت ألا تتدخل.
ففي العام 2006-2007 تدخلت فرنسا عسكرياً، باسم هذه الاتفاقيات، في جمهورية إفريقيا الوسطى، لإنقاذ الرئيس فرانسوا بوزيزيه ضدّ ثوار "اتحاد القوى الديمقراطية من أجل الوحدة". ولكنّ باريس امتنعت عن القيام بالخطوة ذاتها وفي البلد ذاته بعد 5 سنوات، في عهد فرانسوا أولاند (2012).
وفي عام 2019، إبان ولاية إيمانويل ماكرون الأولى، تدخلت فرنسا عسكرياً لنجدة الرئيس التشادي السابق، إدريس ديبي إتنو، وأغارت الطائرات الفرنسية على قوافل للمتمردين بقيادة تيمان إرديمي. في المقابل رفض الرئيس السابق جاك شيراك التدخل عسكرياً لمساعدة رئيس ساحل العاج من الانقلابيين عام 1999 رغم اتفاقية الدفاع بين الطرفين.
ومنذ الانقلاب في مالي عام 2022، واليوم بعد انقلاب النيجر، عادت تلك النصوص إلى واجهة الإعلام الفرنسي بعدما عادت مجدّدا خلال حقبة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي (تحديداً عام 2009)، بعد سعي فرنسي لمراجعة عدد غير محدد من بنودها.
في النيجر أعلن الانقلابيون مؤخراً أن بلادهم ستنسحب من خمس اتفاقيات عسكرية وأمنية موقعة مع فرنسا، ولكن حتى الآن لم تتخذ باريس قراراً بالانسحاب من البلاد وسط احتمال اللجوء إلى عملية عسكرية بقيادة إكواس لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة.
أمّا في مالي، فقد أعطت تلك الاتفاقيات للجيش الفرنسي "حرية الحركة الكاملة على الأراضي وفي المجال الجوي المالي للمركبات والطائرات العسكرية والمدنية لأفراد القوات الفرنسية أو غير الفرنسية التابعة لنفس القوة العسكرية العاملة هناك".
ولكن الضباط الانقلابيين قالوا عام 2022 إن "أجزاء من الأجواء المالية ممنوعة على الطيران الحربي الوطني"، الأمر الذي نفته فرنسا.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن مطلع العام الحالي "خفضا ملحوظا" لعدد القوات العسكرية الفرنسية المنتشرة في دول إفريقية. واقترح ماكرون "شراكة جديدة" مع تلك الدول، وسط تزايد المشاعر المناهضة لباريس والسياسة الفرنسية بشكل عام، وتوسّع الدورين الروسي والصيني في المنطقة. ووعد ماكرون بأن يتحدد الانتشار العسكري الفرنسي داخل القواعد والمدارس التي ستتم إدارتها بشكل مشترك مع القوات المُضيفة.
هذا، وتم تصنيف تلك الاتفاقيات القديمة ضمن فئات مختلفة بدءاً من مجرد تبادل الرسائل مروراً باتفاقيات الدفاع السري ووصولاً إلى اتفاقيات أكثر تفصيلا تتعلق بالمساعدة أو حتى التدخل العسكري. وحتى مطلع العام 2000، حافظت بعض الدول على الإطار القانوني الذي نظّمها، والذي وُضع بين عامي 1959 و1961، بينما أجرت أخرى تعديلات طفيفة عليها.
وترتبط كلّ من الكاميرون، إفريقيا الوسطى، ساحل العاج، السنغال، الغابون، تشاد، وتوغو ومالي التي قررت فرنسا الانسحاب منها في 2022 غداة الانقلاب بعدما رأى القادة العسكريون الجدد أنها تهدّد سيادة البلاد، بمعاهدات عسكرية مع باريس.
وإضافة إلى المستعمرات السابقة، وقعت باريس مع كل من الدوحة والإمارات اتفاقيات تعاون عسكري أيضاً. لكن الكتاب الأبيض الذي طلب فرانسوا هولاند تحضيره ونشر عام 2013، وهو الوثيقة التي تحدد استراتيجية فرنسا الدفاعية الشاملة في عدة قارات، ذكر أن الحق في التدخل العسكري في كل من ساحل العاج والغابون وتوغو سيتم إلغاؤه من دون أن يعرف حتى الآن ما إذا حصل ذلك فعلاً.
وبلغ عدد اتفاقيات التعاون العسكري بين فرنسا ودول إفريقية 21 اتفاقاً في 2021 إضافة إلى 11 اتفاقاً دفاعياً، جميعها مبهمة وغامضة إلى حدود معينة. وكانت هناك مطالبات مستمرة بنشرها، دون جدوى.
وتشير النصوص بشكل أساسي (ومختزل) إلى أمرين أساسيين، الأول تاريخي يخص مساعدة حكومات الدول المستقلة حديثاً على تأسيس جيوش قادرة على مواجهة التهديدات والضغوط الناتجة عن الحرب الباردة. والمساعدة تتضمن تدريب العناصر ومدّ جيوش تلك الدول بالأسلحة. أما النص الثاني فهو سرّي بحسب ما تشير إليه صحيفة NouvelObs والنقطة الأساسية فيه هي "الحفاظ على رباط الخضوع بين القوة الاستعمارية السابقة و "أصدقائها" الأفارقة، خصوصاً من ناحية حفظ الأمن.
والنقطة الأخيرة تسمح لفرنسا بالتدخل عسكرياً لمساعدة أي من تلك البلدان، لكن باريس ليست ملزمة بذلك وعلى الدولة الإفريقية أن تطلب المساعدة، والقرار الأخير بالتدخل يعود للرئيس الفرنسي وحده، ومن هذه الزاوية تُفهم خيارات الرؤساء الفرنسية المختلفة أعلاه.
غير أن الجزء الثاني لا يحدّد طبيعة "الخطر الداهم" وتبقى مصطلحاته فضفاضة، وتشير الصحيفة إلى أنها اختيرت على هذا النحو "لتبرير أي تدخل عسكري مستقبلي".